متشابهات:

متشابهات:

متشابهات:

  المرجعية:

قوله تعالى: ** هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ **

 الموضوعات:

متشابه التكرار من تساؤلات المنهاج

متشابه التكرار من تساؤلات المنهاج

 

بسم الله الرحمن الرحيم

أهم تساؤلات المنهاج:

1- أين المنهاج؟

2- المحكمات والمتشابهات.

3- واو والراسخون.

4- متشابه التكرار.

5- التأويل.

6-السبع المثانى والفاتحة.

7- خاتمية الرسالة.

8- الإكنان.

9- الإحكام.

10- المصطلح.

رابعاً: متشابه التكرار.

لغة المنهاج تبدأ بالتكرارمروراً بطرق التأويل المنهاجى والسبع المثانى والجدل فيها والمنهاجيات وأبواب المنهاج وإنتهاءأ بقوله عز وجل: " إِلَّا قَلِيلًا " فى سورة يوسف وتأويل حلم الملك، ذلك حسب ما تحصلنا عليه من المنهاج إلى الآن، بهدى وفضل من الله الحكيم العليم، جل فضله. التكرار من تعريف الجمهور للمتشابه هو أنه يشبه بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاً. فيكون التكرار من تشابه بعضه لبعض، ومتى كان تكرار كان متشابه، فيضفى التكرار على آحاده صفة المتشابهات ولو كانت محكمات، وقعت فيها الإحتمالات وبات لها مطلب التأويل وعدت من المنهاج.

 تعريف بعض العلماء للمتشابه من أنه يحتمل وجوهاً فإن ردت الوجوه إلى وجه واحد وأُبطل الباقى صار محكماً، تعريف غير مستقيم. ذلك لأن الوجوه عرفت من قول على، رضى الله عنه: "القرآن حمال أوجه"، وهذه المقولة تقع فى التحليل وليس التأويل، تحليل الدلالة والوقوف على عناصرها، وقد أوضحنا الفرق بينهما فى كتاب "إشراق المنهاج"، وفى هذه المدونة مقالة "الدلالة أفقيا ورأسيا". فالوجوه لا تبطل لأنها تثبت وجهاً أو زاوية للدلالة فى كلام الله، مثل وجه إعتقادى وآخر شرعى وثالث منهاجى أو رابع إعجازى لنفس الدليل، وهذه لا تبطل، إنما كل منها يتطلب التأويل أو لا يعتمد على النص إن كان محكماً أو متشابهاً لغوياً فى الآحاد أو تكرارياً. والتأويل يكون لما داخلته الإحتمالات، وهنا يصح القول بأن المتشابه الذى يحتمل إحتمالات، فإن ردت الإحتمالات لإحتمال واحد وأبطلت الباقيات صار محكماً. علي أن ذلك في الدليل الإفرادي، الآحاد، متبع فى شتى العلوم الطبيعية والنظرية، فيها القول بالفروض فى محل الإحتمالات، فإذا ثبت فرض منها أنه الصحيح، بالتجربة أو الدليل القطعى أو الراجح، وبطلت باقى الفروض توصل الباحث إلى الحقيقة العلمية المرجوة.

منهاجية اليقين فى الإستدلال:

التأويل فى المنهاج يختلف عن هذا الطريق، الذى عجز عن الوصول إلي المنهاج، نبينه فيما بعد بعون الله، مطلبه يثبت بثبوت التكرار. فلماذا التكرار ويشبه بعضه بعضاً؟ اللغويون عندهم إجابة مثل التوكيد، ينظرون فى الألفاظ والجمل كمفردات، وللزركشى، رحمه الله، فصل جيد فى مصنفه "البرهان فى علوم القرآن"، أما الإجابة فى المنهاج فعلى وجه مخصوص تتصدى للتكرار فى القرآن كله، بدءاً بالآيات فالأنساق فالسور، فجميع الذكر الحكيم، تجدها فيما يلى من تساؤلات مقتضبةً. مبتدى الإجابة هو بُغية اليقين. لأنه متى كان متشابهاً شابه الظن والإحتمال فى ظاهره، فكيف تصل إلى اليقين؟ فى منهاج القرآن بالتكرار. نقول دائماً أننا نتدبر القرآن بمعاول قرآنية، طبقاً لقوله جل شأنه: " وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا " (فصلت: 12)، عليه تفصيل، وهنا أولها وأهمها، قول أحكم الحاكمين:

* كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ *‏ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ  (التكاثر: 3 – 5)

تأمل التكرار (الألوان لإيضاح الدلالة المنهاجية): الأول والثانى للفعل " تَعْلَمُونَ " متطابقان فى الخبر، أما الثالث فقد وصفه تعالى ب " عِلْمَ الْيَقِينِ". الرابط بينها " كَلَّا " فى ثلاثية. ومادام المطلوب هو اليقين فى العلم، لزم تكرار هذا المطلوب نفسه ثلاثاً لإثبات معول التأويل الذى نتحدث عنه، من ثم يسوغ إتباعه ضمن طرق التأويل المنهاجية، تجده كثيراً فى القرآن أوضحه فى سورة البقرة وقصتها، قول العليم الحكيم:

 قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ ۖ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ ﴿٦٨﴾‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ﴿٦٩﴾‏ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ﴿٧٠﴾‏ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ  * (البقرة: 68 – 71)

مع إجابة سؤال التبيين الثانى وصف جل ذكره البقر بالتشابه، بمعنى كثير الإحتمال، وبمعنى أن الإجابتبن الأولتين ليستا بكافيتين لعلم اليقين. كثير من علماء التفسير استدلوا على تعريف المتشابه من هذا الموضع أنه كثير الإحتمال. أما مع الإجابة الثالثة إرتفع التشابه ووصف تعالى المعطى بالحق المطلوب علمه يقيناً. وعليه لا يثبت علم اليقين بالحقيقة إلا فى التكرار الثالث.

قصة البقرة هذه ثرية الدلالة عليها تفصيل جم لأن بها مبدأ الوسطية فى الإسلام منهاجياً، بلغة المنهاج "منهاجية الوسطية"، وبها إجابة حدود الماهية الفلسفية " مَا هِيَ "؟ تكرر مرتين. الإجابة تَعتبر ثنائيات "الجزء والكل" و"الشكل والمضمون" و"الكيف والكم" من السبع المثانى، فضلا عن الأعراض أوالصفات والوظيفية. والله أعلم.

مثل ذلك فى عدد أهل الكهف، وهى سورة التأويل الثانية فى القرآن بعد سورة يوسف، قول الحكيم العليم:

سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا *  (الكهف: 22)

 وصف عز وجل العد الأول والثانى بالرجم بالغيب، ثم أطلق الثالث ليكون عكسه، أنه يقينى ويكون عددهم سبعة، " رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ "، مثل ما فى واو والراسخون، فلا شك أن الراسخين قلائل. إستنتج العدد سبعة الرازى، رحمه الله، بتفسيره من طريق آخر. تأمل قوله تبارك وتعالى: " فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا " مخالجة الشك وعليه الإحتمال فى التأويل، والنهى عن المراء الظاهر يضمر طلب التأويل تحصيلا للباطن، الحقيقة المضمرة فى الظاهر. فى قصة موسى والخضر، عليهما السلام، قصة تعليم التأويل، هناك ثلاثة  أفعال، وصف الأولين، خرق السفينة وقتل الغلام، بإمراً ونكراً، على الترتيب، أى سلبيين، أما الثالث إقامة الجدار فكان إيجابيا يستحق عليه الأجر. بذلك ثبت مطلوب اليقين بالتكرار ثلاثاً، فى أكثر من ثلاثة مواضع فى القرآن، أهم معاول التأويل المنهاجى للقرآن، مستخلصاً من القرآن. ولله الحمد والمنة.

المساحة المشتركة بين الشرعة والمنهاج:

ذكرنا فى التساؤل الثانى تشبيه المولى جل ذكره الشرعة والمنهاج بالنهر والبحر ونسبة المفهوم بينهما من نسبة العذب والمالح. إستكمالاً لوصفهما حدد مقامهما من بعضهما البعض، فقال أحكم الحاكمين:

وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا *  (الفرقان: 53)

جلت قدرته مَرَج الشرعة والمنهاج وجعل بينهما برزخاً كفاصل يميز الواحد من الآخر، دون أن يبغى أحدهما على الآخر. تقع الكليات فى التمايز، تختلف بين الشرعة والمنهاج، كليات الشريعة معروفة فى الأصول وكليات المنهاج هى السبع المثانى والمنهاجيات، التمييز بيًن. مع هذا الإستقلال فقد مرجهما " مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ "، دمجهما فى مساحة معينة مشتركة، مثل أنهما قسمان من أقسام الدين الحنيف الثلاثة: العقيدة والشرعة والمنهاج، يرتفقان ولا شك بالعقيدة السمحاء. دون الدخول فى التفاصيل، ففى هذه المساحة يقع التواتر والتكرار. التواتر فى الأصول يفيد القطع، بينما التكرار فى المنهاج يفيد اليقين، كلاهما يضفى الظن على الآحاد من الأدلة، فكانت ضرورة تعدد الدليل للإستقراء فى التقعيد، تقعيد قواعد الأصول وتقعيد السبع المثانى. إلاً أن الظن فى الآحاد فى الأصول منشؤه عوامل كثيرة، من بينها اللغويات، تفصيلها معلوم لدى أهل الأصول، بينما منشؤه التكرار بحد ذاته فى المنهاج، حتى لو كانت الآحاد محكمة بلغة القرآن لا يشوبها الظن. فى ذلك قال الإمام الشاطبى، رحمه الله، فى مقدمات مصنفه "الموافقات" المرجعى فى الأصول: " ... فإنها إن كانت من أخبار الآحاد فعدم إفادتها القطع ظاهر، وإن كانت متواترة فإفادتها القطع موقوفة على مقدمات جميعها أو غالبها ظنى، والموقوف على الظنى لابد أن يكون ظنياً، فإنها تتوقف على نقل اللغات وآراء النحو .... الخ (ذكرناه سابقاً عن الرازى)، وإفادة القطع مع اعتبار هذه الأمور متعذر، وقد إعتصم من قال بوجودها بأنها ظنية فى أنفسها، لكن إذا اقترنت بها قرائن مشاهدة أو منقولة فقد تفيد اليقين، وهذا كله نادر أو متعذر. وإنما الأدلة المعتبرة هنا المستقرأة من جملة أدلة ظنية تضافرت على معنى واحد حتى أفادت القطع، فإن للاجتماع من القوة ما ليس للإفتراق، ولأجله أفاد التواتر القطع، وهذا نوع منه، فإذا حصل من استقراء أدلة المسألة مجموع يفيد العلم، فهو الدليل المطلوب، وهو شبيه بالتواتر المعنوى".

     إستعمل الإمام لفظ اليقين بما يعنى القطعى الأصولى، لكن القطعى فى المنهاج يأتى بعد إثبات اليقين، يأتى فى درجات إعمالاً لقاعدة التقريب والتبعيد لآحاد التكرار، بيانها فى الكتاب. جدير بالذكر أن الأصوليين -على قدر علمنا - لم يقتفوا أثر الدليل القرآنى كحجية للتواتر والقطع، نعنى دليل اليقين فى سور التكاثر والبقرة والكهف - عاليه، إنما إعتمدوا فى الغالب العقل والإجماع واختلفوا. البعض نظر فى دليل قرآنى للعدد المعتبر فى التواتر على أرضية صلبة من الإستدلال، مثل إثنى عشر فى قوله تعالى: " وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ۖ"، لا يحتمل ظاهره دلالة على اليقين، إنما دلالته على عدد أبواب المنهاج الإثنى عشر، بيانها فى الكتاب.

 فى كل يجب اعتبار نوعية الدليل فى عدد التكرار أو التواتر القطعى إن كان قرآنى أو عن الرواية ، وجه آخر للتمايز والإشتراك بين الشرعة والمنهاج. فمصادر الإستدلال فى الأولى تشمل القرآن، والسنة النبوية الشريفة والإجماع والقياس وغيرها، أما المنهاج فيقتصر الإستدلال والتقعيد والتأصيل فيه على الذكر الحكيم، لقول العليم الحكيم:

وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا* ﴿الإسراء: ٤٦﴾‏

وقوله فى سورة متشابه المثانى:

وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‎﴿الزمر: ٤٥﴾‏

وقوله:

ذَٰلِكُ: بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِير *ِ﴿غافر: ١٢﴾‏

هذه الآيات الكريمة من المتشابهات، تكرر المعنى فى ذكر الله ثلاث مرات، إشارة المنهاج (بيانها فيما بعد)، عليها تفصيل. فاقتصر تنظيرالمنهاج وتأصيله على أدلة القرآن وحده. وعلى الله قصد السبيل.

دلالة "مرقوم":

التواتر فى الأصول فيه مطلق العدد، لم يلتزم الأصوليون بعدد معين من الأدلة يفيد التواتر والقطع، بل إنهم فى بعض الحالات يعتمدون الآحاد بشروط، وليس كذلك المنهاج كما رأينا بلزوم ثلاثة أدلة لإثبات اليقين فى الإستدلال. فى المنهاج تمايز آخر فى أن عدد الأدلة مُقنًن بأعداد معينة، القاعدة الثانية للتكرار، نستخلصها من قول العليم الخبير:

* كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * (المطففين: 7 – 9)

وقوله:

* كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * ‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ *كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * (المطففين: 18 - 20)

نعود فنقول عندما نستدل على وجه جديد للدلالة فى القرآن فلا نخالف به ما سبقنا من وجوه الدلالة عند علماء التفسير والأصول، إنما نضيف وجهاً جديداً ربما كشف النقاب عن مكنونات جديدة لإعجاز كلام الخالق سبحانه الذى لا ينضب فى باب عدم التفريط. تأمل النظم فى نسقين وتركيب من تراكيب القرآن اللغوية العجيبة فى سورة المطففين. تكرر قوله " مَّرْقُومٌ " مرتين فى نفس السورة على قيد بضع آيات، وفى  التكرار متشابه يعنى بوجه منهاجى جديد غير الوجه الذى عليه التفاسير من أنه كتاب مكتوب فيه صفات الأرقام من دوام ووضوح. الوجه الجديد يشير إلى مرقوم من أرقام، جوزه الألوسى، رحمه الله، فى مصنفه: "روح المعانى": "أو من رقم الكتاب إذا جعل له رقما أى علامة". نعم إن الأرقام فى القرآن لها مدلول على وجه إضافى، ظهرت حديثاً بعض من البحوث العددية تبحث فيه إمتدت إلى عد الآيات والألفاظ المتشابهة، وإستدلوا بها على إعجازات فى النظم القرآنى، تثبت وضع القرآن للخالق توقيفياً. لكن هذا المنحى لم يتناول المعانى عن قرب، والمعنى والمفهوم والمراد المقصود هم مطلوب التفسير والتأويل. فكان الوجه العددى فى " مَّرْقُومٌ " لا نقول فيه الثمن القليل، إنما قاصر عن أن يحيط بمقاصد التنزيل، وهو من ناحية أخرى يعتبر بحثاً فى الشكل والظاهر دون الباطن والمضمون المضمر خاصة فى المتشابهات.

الوجه المنهاجى فى الدلالة هو أن " مَّرْقُومٌ " مرتين فقط فى القرآن كله تعنى الإشارة إلى المثانى فى التكرار مرتين، فكل ما تكرر مرتين، لفظاً أو جملاً أو آية، ينتمى إلى البحث والإستدلال والتأصيل فى المثانى. ومرتين عدداً تفى بالمقصود من " مَّرْقُومٌ " مرتين. فيكون المعنى الرقمى فيه هو عدد التكرار، مرتان وثلاث...الخ. إذا إعتبرنا تكرار " كِتَابَ " مرتين فى كل نسق وموضوع (نعتبر النسق المنهاجى ما يتناول موضوعاً واحداً مترابط المعنى والمقصود، يحده إلتفاتان موضوعيان) وصلنا إلى تفصيل إعتبار الكتاب كله على المثانى عددا، وهو مفهوم قوله جل ذكره فى سورة الزمر: " كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ ". ففى سورة المطففين إستدلال على المتشابه التكرارى العددى الثنائى، وعلى أن هذا فى الكتاب كله. وهو المطلوب إثباته فى القاعدة التكرارية الثانية من معاول التأويل القرآنية المنهاجية، مستخلصة من الذكر الحكيم.

يجدر بالذكر أن نسق المطففين له مدلول جدلى فى نوعين: جدل منطقى من التضاد بين "فجار" وأبرار"، وجدل معرفى من التقابل بين "سجين" و"عليين"، الجدل مرتين، فيشير إلى جدل المثانى. الجدل الأعلى والأعم والجامع عقلياً هو جدل كليات الوجود السبع المثانى، الذى هو الجدل المنهاجى، الأنواع الأخرى مثل المذكورة آنفاً متفرعة منه. تأمل قوله جلت حكمته: " سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ " (البقرة: 261) فتلقف مبضعاً لعلم المثانى فى الذكر الحكيم. تجد بعض التفاصيل فى "إشراق المنهاج". والله أعلم.

كما ذكرنا فى منهاجية  اليقين فإن كل قاعدة وكل حكم منهاجى يلزم لثبوته يقيناً ثلاثة أدلة لأنه ينبنى على متشابه تكرارى يغلب عليه الظن، فإعتبار العدد أو الرقم من معاول التأويل المنهاجى يلزمه دليلان آخران لتعزيز دليل سورة المطففين، تجدهما بصريح  العدد والإحصاء فى قول العليم الخبير:

لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا  (مريم: 94)

وقوله:

لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا *  (الجن: 28)

أرقام مشهودة فى التكرار:

الإستدلال التكرارى لا يقتصر على الثنائيات، فهناك أرقام إستدلالية منهاجية أساسية، أولها الثنائية كإشارة للمثانى، وقد ذكرت المثانى فى القرآن مرتين. وثانيها الثلاثية كما رأينا فى سورة التكاثر لإثبات اليقين، والثلاثية فى آن واحد تعتبر إشارة إلى منهاجية، التى هى هنا "منهاجية اليقين"، متكاثرة فى الذكر الحكيم. الرقم التكرارى الثالث هو سبعة إشارة للسبع المثانى، كما فى نسق الطلاق فى سورة البقرة، تكرر قوله تعالى: " حُدُودُ اللَّهِ " سبع مرات فى آيتين متتاليتين (229، 230). وهو كذلك لفظياً إشارة للسبع المثانى مثل قوله جل علمه: "سَبْعَ بَقَرَاتٍ " و" سَبْعَ سُنبُلَاتٍ " (يوسف: 43). الرقم التكرارى المنهاجى الرابع هو إثنى عشر، إشارة لعدد أبواب المنهاج، مثل تكرار " إذا " إثنتا عشرة مرة فى سورة التكوير، وتكرار " وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ " فى القرآن كله، مكذبين بالمنهاج. ولفظياً مثل قوله جل وعلا: " أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُم " (البقرة: 60). الرقم التكرارى الخامس مركب من الثنائية والثلاثية، تكرار الثنائية ثلاث مرات بغية اليقين فى استخلاصها وتأصيلها، دليله التأصيلى قوله تعالى: " وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً " (الواقعة: 7)، فُصًلت الأزواج الثلاثة فيما تلاها من آيات. تأمل آيات القبلة وقول الخلاق العليم:

* قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ *   (البقرة: 144)

وقوله:

* وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ  *   (البقرة: 149 - 50)

هذا مثال مثالى لإشارة التكرار الثنائى الثلاثى من قوله تعالى: " أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً " (الواقعة: 7)، الذى يُنظر فيه تأصيلاً لثنائية من ثنائيات السبع المثانى. تكرر تكليف القبلة ثلاث مرات للنبى، عليه الصلاة والسلام، وللمسلمين مرتين. بالتجريد تكرر التكليف للفرد ثلاثاً وللمجتمع مرتين، دليل وإشارة لثنائية "الفرد والمجتمع" وكليتها "الجزء والكل" من السبع المثانى، كليات الوجود. لكن يلزم دليلان تكراريان آخران مثل ذلك حتى يثبت يقيناً إستخلاص الثنائية كإحدى السبع المثانى، متكاثر فى الذكر الحكيم بالنسبة لهذه الثنائية أكثر من غيرها. هو مثال مثالى، يقع فى المساحة المشتركة السابق بيانها، لأن به تكليف شرعى لا يستدعى أكثر من دليل واحد، لكنه تكرر خمس مرات. باب مفتوح لذريعة وحجة لأعداء الإسلام للطعن على القرآن بالركاكة للتكرار، فما بالك بتكرار جملة وتكليف فى آيتين متتاليتين (البقرة: 149، 150)، وأى ركاكة يحتجون بها؟ بينما الوضع عكسى فى المنهاج، كلما قربت الأدلة التكرارية من بعضها البعض كلما كانت أكثر قطعية فى الحكم، قاعدة التقريب والتبعيد فى التأويل، فدليلان فى آيتين متتاليتين فيهما القطع مثالى ويقين الإستدلال بيًن، أكثر قطعياً فى الآية الواحدة. لقد جاء التحدى بإتيان سورة منه، فهل التحدى الإلهى بالركيك المتكرر؟ فيثور سؤال لماذا التكرار إذا كان التكليف الشرعى ثابت بدليل واحد مقصده تكليف المصطفى، عليه الصلاة والسلام، فتكليفه تكليف للمسلمين؟ هذه إجابته منهاجية ناصعة بينة. ولله الحمد والمنة.

     وتعجب من تكرار أمره تعالى شأنه: " أَقِيمُوا الصَّلَاةَ  "، جاء فى القرآن كله إثنتا عشرة مرة بعدد أبواب المنهاج، إشارة إلى المنهاج. فوقع التكليف فى المساحة المشتركة بين الشرعة والمنهاج، مثل قبلة الصلاة آنفاً. على ذلك كل النصوص الشرعية إذا تطرق إليها التكرار. وتعجب أن فى هذا التكرار ثلاثة آحاد فى سورة البقرة وإثنتان فى سورة النساء، إشارة قانون التأويل الأساسى فى تأصيل السبع المثانى، قوله تعالى: " وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً "، سبق. أما السبعة آحاد الأخر ففى سبع سور، واحد فى واحدة، تعد أيضاً إشارة للسبع المثانى. هكذا يمكنك تحليل التكرارات للوقوف على الإشارات الدلالية فيها، وهذا مثال له. مثل ذلك فى الأمر الإفرادى وقوله جلت حكمته: " أَقِمِ الصَّلَاةَ  "، تكرر فى القرآن خمس مرات، ثلاثة منها الخطاب فيها لنبى الإسلام محمد، عليه الصلاة والسلام، مرة ثانية الأزواج الثلاثة فى أدلة نفس التكليف، تقع أيضاً فى المساحة المشتركة، ومطلب التكليف الشرعى دليل واحد. وأيضاً ففى الأمرين الإفرادى والجماعى إشارة ثنائية "الجزء والكل" كما فى آيات القبلة، سبق. أما تكييف تكليف الصلاة فى المنهاج، وكل التكليفات الشرعية فى المساحة المشتركة، فمسألة عظيمة الشأن، عميقة الأثر، ليس لها المقام، ولكل مجتهد نصيب. والله أعلم، من فضله الهدى والتوفيق.

دليل منهاجية التكرار:

كنز من كنوز التكرار التدليل على منهاجية التكرار فى التأويل المنهاجى السابق بيانه. تأمل سورة يونس وقول أحكم الحاكمين:

قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۚ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ * ( يونس: 34)

تكرر قوله: " يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ " مرتين فى نفس الآية، إشارة المثانى قطعية. كرر السؤال فى الإجابة بخلاف ما فى الرعد بلا تكرير لموضوع السؤال: " قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ قُلِ ٱللَّهُ" (الرعد: 16). الوجه الأول فى الإفراد معلوم عند اللغويين والمفسرين بالنظر فى التكرير على أنه توكيد أو حصر. قال الألوسى، رحمه الله، بالحصر فى هذه الآية. الوجه الثانى منهاجى تدليلاً على المثانى. الوجه الثالث من التورية، وهى جعل المقصود بالإعادة القرآن فى نظمه وتركيبه، أن به إعادة وتكرير، مثل ما قيل فى سورة هود وقوله جل وعلا: "كتاب أحكمت آياته" من أن الكتاب يعنى سورة هود هى المحكمة على التخصيص، وإن كان معظم العلماء فهمه على أنه القرآن فى باب العموم، من ثم بنوا رأيهم السابق ذكره من أن القرآن كله محكم، وقد فندناه. كذلك فى آية يونس هذه فالمقصود تكرير الإعادة فى النص الظاهر، وجه غير الوجه الإعتقادى السائد من أنه تعالى الخالق والباعث والقادر على إعادة الخلق. الأدلة على هذا الوجه من التورية متكاثرة فى الذكر الحكيم، سبق أحدها فى قوله عز وجل: " وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً  " ثم فصلها لفظياً فيما تلا من آيات، قوله الحكيم العليم:

 * وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً *‏ فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ *‏ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ *‏ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ *‏ (الواقعة: 7 – 10)

 ثلاثة أزواج من أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة (تضاد جدلى)، والسابقون. فالقرآن فى مثل هذه المواضع يتحدث عن نفسه، فى باب تفسير القرآن بالقرآن، المستحب والمقدم منهجا للتفسير، ولقوله تبارك وتعالى: " وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا ۚ". مفاد ذلك أن إعادة البداية تشير إلى التكرير فى سورة يونس، فتجد عجباً فى تكرار صدر الآيات بقوله تعالى: " قُل "، تكررت البداية إثنتى عشرة مرة (الآيات: 16، 31، 34، 35، 49، 50، 58، 59، 69، 101، 104، 108) ، إشارة أبواب المنهاج، لاحظ أن فى هذا التكرار ثلاثة أزواج كل زوج فى آيتين متتاليتين (34، 35 – 49، 50 – 58، 59). وتكرير الخلق والإعادة فى نفس السورة ثلاث مرات يعنى إشارة المنهاجية، كما سبق. فتكرير إعادة البداية يثبت منهاجية التكرار كمعول تأويلى قرآنى فى المنهاج. بالطبع لم يثبت بدليل قرآنى أن الله يبدأ خلق الكون ومن فيه، البعث والنشور، ثم يعيده ثلاثاً أو إثنتى عشرة مرة، وهو القادر الحكيم قادر على ذلك، لا مراء، لكنه لم يدلل لنا على عدد الإعادة، فكان هذا سبباً يثبت الوجه الذى نحن عليه، أن القرآن يتحدث عن نفسه فى مواضع كثيرة من المتشابهات. هو تدليل على الطريق إلى المنهاج والسبع المثانى عبر التكرار. إلى المنهاج بتكرار البداية فى صدر الآيات إثنتى عشرة مرة، وإلى المثانى بالتكرار مرتين فى نفس الآية لإعادة بداية الخلق. وإلى المنهاجيات بالتكرار ثلاث مرات فى نفس السورة كوحدة دلالية (أيتى 4 و 34). وإلى السبع المثانى لأن قوله تعالى: " يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ " تكرر فى القرآن سبع مرات: ((يونس: 4،  34 (2)– النمل: 64 – الروم: 11، 27 – العنكبوت: 19 (فاعل))، إشارة السبع المثانى. وتعجب أن ثلاثة منها فى سورة (يونس) وإثنتان فى سورة (الروم)، إشارة الأزواج الثلاثة من الأدلة المطلوبة لإثبات اليقين فى التدليل على السبع المثانى. ليست هذه الإعادة والتكرير فى صدر الآيات فحسب وإنما أيضاً فى فواصل الآيات، مما يثبت أن السجع القرآنى ليس من الشعر, وهناك قواعد أكثر للتكرار نبينها فى حينها بعون الله، تبرز مدى الجهد والإحتهاد المطلوبين لتأصيل علوم المنهاج، تبحر فى بحور بلا برور من الدلالة فى باب عدم التفريط. والله أعلم والموفق.

         ثم تعجب مرة أخرى من دلالة التكرار، فقد تكرر لفظ " مُتَشَابِهٍ " (مجرد دون إلحاقات) فى الذكر الحكيم سبع مرات (البقرة: 25، آل عمران: 7، الأنعام: 99 (2) "مشتبها = متشابها"، 141 (2)، الزمر: 23)، بإشارة السبع المثانى، فتجمع بين دلالة قوله جلت حكمته: "  كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ " (الزمر: 23)، ودلالة قوله: " آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي" (الحجر: 87) ، بإعتبار تكرير المثانى نفسها مرتين بإشارة المثانى وكرابط أو قرينة تعلق بين الدليلين. فتكون السبع المثانى من متشابه التكرار. ما يثبت تطبيقياً منهاجية العد التكرارى، وما يطلعك على شبكة المعانى العنكبوتية فى القرآن، ويدهشك تصدع الجبل من ثراء الدلالة فى الذكر الحكيم. والله أعلم. 

بهذا إتضح أكثر المقصود بلفظ " مَّرْقُومٌ " فى سورة المطففين، وبهذا دخلنا فى باب التفسير الإشارى للقرآن، لتتفجر منابع الإستدلال التكرارى. وما زال للتأويل معاول أخرى قرآنية، تبيينها فيما بعد بعون الله. تفصيل الإستدلال وإحاطة أكثر بالتكرار وقواعد أخرى فى كتاب "إشراق المنهاج" الذى جاء به:

"وعليه فإن فى التكرار المنهاجى رد لتلك المطاعن بالركاكة، وإثبات إعجاز النسق والنظم والتحدى بالوضع فى القرآن، فضلا عن مناطه الذى وضع له وهو الاستقراء. فيه إجابة السؤال الملح والذى جاهد من أجل إجابته الكرمانى، رحمه الله: لماذا كان التكرار الذى يُسْبِغ عِواراً على النص وقيل فيه بالإحكام وإتقان الصنع؟ لكنه القرآن معجزاً لبنى البشر بالوضع وبالدلالة، شكلاً ومضموناً، غايةً ووسيلة، وفى التكرار المنهاجى الإعجاز النصى والتحدى الأكبر في القرآن الكريم، كلام الله. لم يكن أعظم إحكاما للنص من مرتبة هذا التكرار، وكان التحدى بإتيان سورة منه لم يتخيله بشر من قبل. فإنقلب العِوار إلى تاج الإحكام في النصوص، والله أعلم، به التوفيق."

والحمد لله الذى هدانا لهذا وما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله، من فضله.

مقالة علماء التفسير فى بيان المحكم والمتشابه.

مقالة علماء التفسير فى بيان المحكم والمتشابه.

بعض ما نراه أحسن ما قيل فى محكم ومتشابه القرآن ويخدم البحث فى المنهاج، مبنيا على تفسير قوله تعالى:

 * هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ * (آل عمران: 7)

 

 القرطبى:

وقد قيل : القرآن كله محكم ؛ لقوله تعالىكتاب أحكمت آياته وقيل : كله متشابه ; لقولهكتابا متشابها .
قلت : وليس هذا من معنى الآية في شيء ، فإن قوله تعالىكتاب أحكمت آياته أي في النظم والرصف وأنه حق من عند الله ، ومعنى كتابا متشابها أي يشبه بعضه بعضا ويصدق بعضه بعضا . وليس المراد بقولهآيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات هذا المعنى ، وإنما المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه من قولهإن البقر تشابه علينا أي التبس علينا ، أي يحتمل أنواعا كثيرة من البقر . والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا ، وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجها واحدا . وقيلإن المتشابه ما يحتمل وجوها ، ثم إذا ردت الوجوه إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما . فالمحكم أبدا أصل ترد إليه الفروع ، والمتشابه هو الفرع . وقال ابن عباس : ( المحكمات هو قوله في سورة الأنعام قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى ثلاث آيات ، وقوله في بني إسرائيل : وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا قال ابن عطية : وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات . وقال ابن عباس أيضا : (المحكمات ناسخه وحرامه وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به ، والمتشابهات المنسوخات ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به) وقال ابن مسعود وغيره : (المحكمات الناسخات ، والمتشابهات المنسوخات) وقاله قتادة والربيع [ص: 12] والضحاك . وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المحكمات هي التي فيها حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه . والمتشابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل ، ابتلى الله فيهن العباد ، وقاله مجاهد وابن إسحاق قال ابن عطية : وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية . قال النحاس : أحسن ما قيل في المحكمات والمتشابهات : أن المحكمات ما كان قائما بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره نحو لم يكن له كفوا أحد، وإني لغفار لمن تاب . والمتشابهات نحو إن الله يغفر الذنوب جميعا يرجع فيه إلى قوله جل وعلاوإني لغفار لمن تاب وإلى قوله عز وجلإن الله لا يغفر أن يشرك به .

 

الطبرى:

وقال آخرون: بل الـمـحكم من آي القرآن: ما عرف العلـماء تأويـله، وفهموا معناه وتفسيره؛ والـمتشابه: ما لـم يكن لأحد إلـى علـمه سبـيـل مـما استأثر الله بعلـمه دون خـلقه، وذلك نـحو الـخبر عن وقت مخرج عيسى ابن مريـم، ووقت طلوع الشمس من مغربها، وقـيام الساعة، وفناء الدنـيا، وما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يعلـمه أحد. وقالوا: إنـما سمى الله من آي الكتاب الـمتشابه الـحروف الـمقطعة التـي فـي أوائل بعض سور القرآن من نـحو الـم، والـمص، والـمر، والر، وما أشبه ذلك، لأنهن متشابهات فـي الألفـاظ، وموافقات حروف حساب الـجمل. وكان قوم من الـيهود علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طمعوا أن يدركوا من قبلها معرفة مدة الإسلام وأهله، ويعلـموا نهاية أُكْلِ مـحمد وأمته، فأكذب الله أحدوثتهم بذلك، وأعلـمهم أن ما ابْتَغَوْا علـمه من ذلك من قبل هذه الـحروف الـمتشابهة لا يدركونه ولا من قبل غيرها، وأن ذلك لا يعلـمه إلا الله. وهذا قول ذكر عن جابر بن عبد الله بن رئاب أن هذه الآية نزلت فـيه، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه وعن غيره مـمن قال نـحو مقالته فـي تأويـل ذلك فـي تفسير قوله:
الم ذلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ }
وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أشبه بتأويـل الآية، وذلك أن جميع ما أنزل الله عز وجل من آي القرآن علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنـما أنزله علـيه بـيانا له ولأمته وهدى للعالـمين، وغير جائز أن يكون فـيه ما لا حاجة بهم إلـيه، ولا أن يكون فـيه ما بهم إلـيه الـحاجة، ثم لا يكون لهم إلـى علـم تأويـله سبـيـلفإذا كان ذلك كذلك، فكل ما فـيه لـخـلقه إلـيه الـحاجة، وإن كان فـي بعضه ما بهم عن بعض معانـيه الغنى، وإن اضطرته الـحاجة إلـيه فـي معان كثـيرة، وذلك كقول الله عز وجل:
يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَـانِهَا خَيْرًا }.

 

الزمخشرى:

مُّحْكَمَـٰتٌ } أحكمت عبارتها بأن حفظت من الاحتمال والاشتباه { مُتَشَـٰبِهَـٰتٌ } مشتبهات محتملات { هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِ } أي أصل الكتاب تحمل المتشابهات عليها وتردّ إليها، ومثال ذلك:
لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلاْبْصَـٰرُ } [الأنعام: 103]،

{ إِلَىٰ رَبّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 23]،

لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَاء [الأعراف: 27]،

{ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا [الإسراء: 16].

فإن قلت: فهلا كان القرآن كله محكماً؟ قلت: لو كان كله محكماً لتعلق الناس به لسهولة مأخذه، ولأعرضوا عما يحتاجون فيه إلى الفحص والتأمّل من النظر والاستدلال، ولو فعلوا ذلك لعطلوا الطريق الذي لا يتوصل إلى معرفة الله وتوحيده إلا به، ولما في المتشابه من الابتلاء والتمييز بين الثابت على الحق والمتزلزل فيه، ولما في تقادح العلماء وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه وردّه إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند الله، ولأنّ المؤمن المعتقد أن لا مناقضة في كلام الله ولا اختلاف، إذا رأى فيه ما يتناقض في ظاهره، وأهمه طلب ما يوفق بينه ويجريه على سنن واحد، ففكر وراجع نفسه وغيره ففتح الله عليه وتبين مطابقة المتشابه المحكم، ازداد طمأنينة إلى معتقده وقوّة في إيقانه.

 

البيضاوى:

{هُوَ ٱلَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ مِنْهُ آيَـٰتٌ مُّحْكَمَـٰتٌأحكمت عبارتها بأن حفظت من الإِجمال والاحتمال. {هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَـٰبِأصله يرد إليها غيرها والقياس أمهات فأفرد على تأويل كل واحدة، أو على أن الكل بمنزلة آية واحدة. {وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتٌمحتملات لا يتضح مقصودها ـ لإِجمال أو مخالفة ظاهر ـ إلا بالفحص والنظر ليظهر فيها فضل العلماء، ويزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها، فينالوا بها ـ وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها، والتوفيق بينها وبين المحكمات ـ معالي الدرجات.

 

الشوكانى:

وقد اختلف العلماء في تفسير المحكمات، والمتشابهات على أقوال: فقيل: إن المحكم: ما عرف تأويله، وفهم معناه، وتفسيره، والمتشابه: ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل؛ ومن القائلين بهذا جابر بن عبد الله، والشعبي، وسفيان الثوري، قالوا: وذلك بجر الحروف المقطعة في أوائل السور. وقيلالمحكم: ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، والمتشابه ما يحتمل وجوهاً، فإذا ردّت إلى وجه واحد، وأبطل الباقي صار المتشابه محكماً، وقيل: إن المحكم ناسخه، وحرامه، وحلاله، وفرائضه، وما نؤمن به، ونعمل عليه، والمتشابه: منسوخه، وأمثاله، وأقسامه وما نؤمن به، ولا نعمل به. روى هذا عن ابن عباس، وقيل: المحكم: الناسخ، والمتشابه: المنسوخ، روي عن ابن مسعود، وقتادة، والربيع، والضحاك؛ وقيلالمحكم: الذي ليس فيه تصريف، ولا تحريف عما وضع له، والمتشابه: ما فيه تصريف، وتحريف، وتأويل قاله مجاهد، وابن إسحاق. قال ابن عطية: وهذا أحسن الأقوال، وقيلالمحكم: ما كان قائماً بنفسه لا يحتاج إلى أن يرجع فيه إلى غيره، والمتشابه: ما يرجع فيه إلى غيرهقال النحاس: وهذا أحسن ما قيل في المحكمات، والمتشابهات. قال القرطبي ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية، وهو الجاري على وضع اللسان، وذلك أن المحكم اسم مفعول من أحكم، والإحكام: الإتقان، ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه، ولا تردّد، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته، وإتقان تركيبها، ومتى اختلّ أحد الأمرين جاء التشابه، والإشكال. وقال ابن خويز منداد: للمتشابه وجوه: ما اختلف فيه العلماء: أيّ الآيتين نسخت الأخرى، كما في الحامل المتوفى عنها زوجها، فإن من الصحابة من قال: إن آية وضع الحمل نسخت آية الأربعة الأشهر، والعشر، ومنهم من قال بالعكس. وكاختلافهم في الوصية للوارث، وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن يقدّم إذا لم يعرف النسخ، ولم توجد شرائطه، وكتعارض الأخبار، وتعارض الأقيسة، هذا معنى كلامه.
والأولى أن يقالإن المحكم هو: الواضح المعنى الظاهر الدلالة، إما باعتبار نفسه، أو باعتبار غيره، والمتشابه ما لا يتضح معناه، أو لا تظهر دلالته لا باعتبار نفسه، ولا باعتبار غيره . وإذا عرفت هذا عرفت أن هذا الاختلاف الذي قدّمناه ليس كما ينبغي، وذلك لأن أهل كل قول عرفوا المحكم ببعض صفاته، وعرفوا المتشابه بما يقابلها.

 

الرازى:

المسألة الثانية:إعلم أن القرآن دل على أنه بكليته محكم، ودل على أنه بكليته متشابه، ودل على أن بعضه محكم، وبعضه متشابه.

أما ما دل على أنه بكليته محكم، فهو قوله:

الر تِلْكَ ءَايَـٰتُ ٱلْكِتَـٰبِ ٱلْحَكِيمِ [يونس: 1]

الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَـٰتُهُ } [هود: 1]

فذكر في هاتين الآيتين أن جميعه محكم، والمراد من المحكم بهذا المعنى كونه كلاماً حقاً فصيح الألفاظ صحيح المعاني وكل قول وكلام يوجد كان القرآن أفضل منه في فصاحة اللفظ وقوة المعنى ولا يتمكن أحد من إتيان كلام يساوي القرآن في هذين الوصفين، والعرب تقول في البناء الوثيق والعقد الوثيق الذي لا يمكن حله: محكم، فهذا معنى وصف جميعه بأنه محكم.

وأما ما دل على أنه بكليته متشابه، فهو قوله تعالى:

كِتَـٰباً مُّتَشَـٰبِهاً مَّثَانِيَ [الزمر: 23]

والمعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الحسن ويصدق بعضه بعضاً، وإليه الإشارة بقوله تعالى:

وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلَـٰفاً كَثِيراً [النساء: 82]

أي لكان بعضه وارداً على نقيض الآخر، ولتفاوت نسق الكلام في الفصاحة والركاكة.

وأما ما دل على أن بعضه محكم وبعضه متشابه، فهو هذه الآية التي نحن في تفسيرها، ولا بد لنا من تفسير المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة، ثم من تفسيرهما في عرف الشريعة: أما المحكم فالعرب تقول: حاكمت وحكمت وأحكمت بمعنى رددت، ومنعت، والحاكم يمنع الظالم عن الظلم وحكمة اللجام التي هي تمنع الفرس عن الاضطراب، وفي حديث النخعي: احكم اليتيم كما تحكم ولدك أي امنعه عن الفساد، وقال جرير: أحكموا سفهاءكم، أي امنعوهم، وبناء محكم أي وثيق يمنع من تعرض له، وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي، وأما المتشابه فهو أن يكون أحد الشيئين مشابهاً للآخر بحيث يعجز الذهن عن التمييز، قال الله تعالى:

إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَـٰبَهَ عَلَيْنَا [البقرة: 70]

وقال في وصف ثمار الجنة:

وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَـٰبِهاً [البقرة: 25]

أي متفق المنظر مختلف الطعوم، وقال الله تعالى:

تَشَـٰبَهَتْ قُلُوبُهُمْ [البقرة: 118]

ومنه يقال: اشتبه علي الأمران إذا لم يفرق بينهما، ويقال لأصحاب المخاريق: أصحاب الشبه، وقال عليه السلام: " الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات " وفي رواية أخرى مشتبهات.

ثم لما كان من شأن المتشابهين عجز الإنسان عن التمييز بينهما سمي كل ما لا يهتدي الإنسان إليه بالمتشابه، إطلاقاً لاسم السبب على المسبب، ونظيره المشكل سمي بذلك، لأنه أشكل، أي دخل في شكل غيره فأشبهه وشابهه، ثم يقال لكل ما غمض وإن لم يكن غموضه من هذه الجهة مشكل، ويحتمل أن يقال: إنه الذي لا يعرف أن الحق ثبوته أو عدمه، وكان الحكم بثبوته مساوياً للحكم بعدمه في العقل والذهن، ومشابهاً له، وغير متميز أحدهما عن الآخر بمزيد رجحان، فلا جرم سمي غير المعلوم بأنه متشابه، فهذا تحقيق القول في المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغة، فنقول:

الناس قد أكثروا من الوجوه في تفسير المحكم والمتشابه، ونحن نذكر الوجه الملخص الذي عليه أكثر المحققين، ثم نذكر عقيبه أقوال الناس فيه فنقول:

اللفظ الذي جعل موضوعاً لمعنى، فإما أن يكون محتملاً لغير ذلك المعنى، وإما أن لا يكون، إلا أن النص راجح مانع من الغير، والظاهر راجح غير مانع من الغير، فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمحكم.

وأما المجمل والمؤول فهما مشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة، وإن لم يكن راجحاً لكنه غير مرجوح، والمؤول مع أنه غير راجح فهو مرجوح لا بحسب الدليل المنفرد، فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمتشابه، لأن عدم الفهم حاصل في القسمين جميعاً وقد بينا أن ذلك يسمى متشابهاً إما لأن الذي لا يعلم يكون النفي فيه مشابهاً للإثبات في الذهن، وإما لأجل أن الذي يحصل فيه التشابه يصير غير معلوم، فأطلق لفظ المتشابه على ما لا يعلم إطلاقاً لاسم السبب على المسبب، فهذا هو الكلام المحصل في المحكم والمتشابه، ثم اعلم أن اللفظ إذا كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية، فههنا يتوقف الذهن، مثل: القرء، بالنسبة إلى الحيض والطهر، إنما المشكل بأن يكون اللفظ بأصل وضعه راجحاً في أحد المعنيين، ومرجوحاً في الآخر، ثم كان الراجح باطلاً، والمرجوح حقاً، ومثاله من القرآن قوله تعالى:

وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ } [الإسراء: 16]

فظاهر هذا الكلام أنهم يؤمرون بأن يفسقوا، ومحكمه قوله تعالى:

إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِٱلْفَحْشَاء } [الأعراف: 28]

رداً على الكفار فيما حكى عنهم:

وَإِذَا فَعَلُواْ فَـٰحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَاءنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا [الأعراف: 28]

وكذلك قوله تعالى:

نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 67]

وظاهر النسيان ما يكون ضداً للعلم، ومرجوحه الترك والآية المحكمة فيه قوله تعالى:

وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } [مريم: 64]

وقوله تعالى:

لاَ يَضِلُّ رَبّى وَلاَ يَنسَى } [طه: 52].

واعلم أن هذا موضع عظيم فنقول: إن كل واحد من أصحاب المذاهب يدعي أن الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، وأن الآيات الموافقة لقول خصمه متشابهة، فالمعتزلي يقول قوله:

{ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } [الكهف: 29]

محكم، وقوله:

وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [التكوير: 29]

متشابه والسني يقلب الأمر في ذلك، فلا بد ههنا من قانون يرجع إليه في هذا الباب فنقول: اللفظ إذا كان محتملاً لمعنيين وكان بالنسبة إلى أحدهما راجحاً، وبالنسبة إلى الآخر مرجوحاً، فإن حملناه على الراجح ولم نحمله على المرجوح، فهذا هو المحكم وأما إن حملناه على المرجوح ولم نحمله على الراجح، فهذا هو المتشابه فنقول: صرف اللفظ عن الراجح إلى المرجوح لا بد فيه من دليل منفصل، وذلك الدليل المنفصل إما أن يكون لفظياً وإما أن يكون عقلياً.

أما القسم الأول: فنقول: هذا إنما يتم إذا حصل بين ذينك الدليلين اللفظيين تعارض وإذا وقع التعارض بينهما فليس ترك ظاهر أحدهما رعاية لظاهر الآخر أولى من العكس، اللّهم إلا أن يقال: إن أحدهما قاطع في دلالته والآخر غير قاطع فحينئذ يحصل الرجحان، أو يقال: كل واحد منهما وإن كان راجحاً إلا أن أحدهما يكون أرجح، وحينئذ يحصل الرجحان إلا أنا نقول:

أما الأول فباطل، لأن الدلائل اللفظية لا تكون قاطعة ألبتة، لأن كل دليل لفظي فإنه موقوف على نقل اللغات، ونقل وجوه النحو والتصريف، وموقوف على عدم الاشتراك وعدم المجاز، وعدم التخصيص، وعدم الإضمار، وعدم المعارض النقلي والعقلي، وكان ذلك مظنون، والموقوف على المظنون أولى أن يكون مظنوناً، فثبت أن شيئاً من الدلائل اللفظية لا يكون قاطعاً.

وأما الثاني وهو أن يقال: أحد الدليلين أقوى من الدليل الثاني وإن كان أصل الاحتمال قائماً فيهما معاً، فهذا صحيح، ولكن على هذا التقدير يصير صرف الدليل اللفظي عن ظاهره إلى المعنى المرجوح ظنياً، ومثل هذا لا يجوز التعويل عليه في المسائل الأصولية، بل يجوز التعويل عليه في المسائل الفقهيه فثبت بما ذكرناه أن صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح في المسائل القطعية لا يجوز إلا عند قيام الدليل القطعي العقلي على أن ما أشعر به ظاهر اللفظ محال، وقد علمنا في الجملة أن استعمال اللفظ في معناه المرجوح جائز. عند تعذر حمله على ظاهره فعند هذا يتعين التأويل، فظهر أنه لا سبيل إلى صرف اللفظ عن معناه الراجح إلى معناه المرجوح إلا بواسطة إقامة الدلالة العقلية القاطعة على أن معناه الراجح محال عقلا ثم إذا أقامت هذه الدلالة وعرف المكلف أنه ليس مراد الله تعالى من هذا اللفظ ما أشعر به ظاهره، فعند هذا لا يحتاج إلى أن يعرف أن ذلك المرجوح الذي هو المراد ماذا، لأن السبيل إلى ذلك إنما يكون بترجيح مجاز على مجاز وترجيح تأويل على تأويل، وذلك الترجيح لا يمكن إلا بالدلائل اللفظية والدلائل اللفظية على ما بينا ظنية لا سيما الدلائل المستعملة في ترجيح مرجوح على مرجوح آخر يكون في غاية الضعف، وكل هذا لا يفيد إلا الظن الضعيف والتعويل على مثل هذه الدلائل في المسائل القطعية محال. فلهذا التحقيق المتين مذهبناً، أن بعد إقامة الدلائل القطعية على أن حمل اللفظ على الظاهر محال لا يجوز الخوض في تعيين التأويل، فهذا منتهى ما حصلناه في هذا الباب، والله ولي الهداية والرشاد. أ.ه.

___________________________________________

الإنشاء: Minhageat.com